كانت محاسن ذات
العشرين عاماً تسكن بأحد المباني القديمة الراقية بحي مصر الجديدة بالقاهرة وتعرف
كل سكان المبنى منذ نعومة أظافرها، ترسلها والدتها إليهم في الأعياد بالكعك أو بما
تصنعه بيدها بشقتها، كانت تعرفهم جميعاً
وتعرف عنهم كل شيء تقريباً، فهذه شقة مدام سحر صاحبة متجر ملابس وأرملة وتقيم مع
ابنها وابنتها اللذان يدرسان بالجامعة، وهذه شقة أستاذ عبد السلام أشرف، المدرس
بأحد المدارس الأجنبية الراقية بالقاهرة ويقيم مع زوجته الصعيدية وابنهما الصغير،
ومع قدر معرفتها الكبيرة بكل سكان البناية، فتقريباً لم تكن تعلم شيئاً عن أستاذ
نادر عبد الهادي، ذلك العجوز الودود الذي تخطى الستين من عمره لكن بصحة جيدة وجسد
رياضي ممشوق. فهو قليل الكلام ويعيش بمفرده لا أحد يزوره ولا يخرج إلا لشراء
احتياجاته ويعود سريعاً. أدركت بحدسها الأنثوي أن وراء ابتسامته ووجهه الهادئ
البشوش سراً كبيراً، وصممت على معرفته.
ذات يوم قابلته
على السلم صاعداً يحمل أكياس كثيرة من البقالة، عرضت عليه مساعدته في حملها،
فشكرها رافضا أن يتعبها، لكنها أصرت على مساعدته فرضخ لطلبها. حملت بعض الأكياس
وصعدت معه إلى حيث شقته، فتح باب الشقة فدلفت أمامه بالدخول في فضول واضح وبدون
استئذان.
أخذت تتأمل في الشقة، نظيفة ومرتبة بعناية، لكن ما لفت نظرها بأن في وسط الصالة جدار كامل يحمل مجموعة من الصور المزينة بإطارات ملونة رائعة، وكل الصور لنفس الشخص، فتاة في العشرينيات من عمرها مبتسمة في رقة، وتمتلك عينين واسعتين.
أخذت تتأمل في الشقة، نظيفة ومرتبة بعناية، لكن ما لفت نظرها بأن في وسط الصالة جدار كامل يحمل مجموعة من الصور المزينة بإطارات ملونة رائعة، وكل الصور لنفس الشخص، فتاة في العشرينيات من عمرها مبتسمة في رقة، وتمتلك عينين واسعتين.
سألت في فضول بدون
أن تفارق عينيها الصور "من هذه؟" لم يجبها سوى الصمت. التفتت إليه
فوجدته مطرقاً بحزن إلى الأرض. فارتبكت وقالت بسرعة "آسفة، لم أقصد".
قال لها "لا عليك، إنها من أحببت نصف سنوات عمري." ترددت في السؤال قبل
أن يغلبها فضولها "هل هي زوجتك؟" هز رأسه بالنفي وقال "لا، لم نتزوج،
ولم نقترب حتى من هذا". ظهرت على ملامحها معالم عدم الفهم، فابتسم في عطف
وقال سأعد لنا كوبين من القهوة بالحليب لتسمعي القصة التي لم أحكها لأحد منذ سنوات
طويلة، ابتسمت، ودخلت معه للمطبخ لتساعده.
عادا مرة أخرى
للجلوس في الصالة واحتساء القهوة بالحليب، قالت محاسن لأستاذ نادر "أنا
متشوقة لسماع قصتك، لكن قبل أن تبدأ، ما اسمها؟" أجاب "منى
الطلحاوي" فسألته "كيف التقيتما؟ ومتى؟ وماذا حدث؟ ولماذا لم
تتزوجا؟" ابتسم الأستاذ نادر وقال لها "اكبحي لجام فضولك، فسوف أخبرك
بكل شيء". فصمتت محاسن وبدأت تصغي باهتمام.
بدأ الأستاذ نادر بسرد قصته قائلاً "التقيتها منذ زمن طويل في بداية الثلاثينيات من عمري، كانت فتاة بسيطة ذكية جميلة وممتلئة حماساً ونشاطاً، لم أكن أقيم بالقاهرة حينئذ وهي قاهرية المنشأ وعرفنا بعضنا عن طريق المراسلة التي كانت منتشرة حينئذ قبل ظهور الانترنت. حيث كانت المجلات وقتها تنشر عناوين لمن يهوون المراسلة. خطاب بعد آخر ثم تبادلنا الصور، ثم بعد شهور قررنا اللقاء، والتقينا في مقهى شهير بوسط القاهرة وجلسنا نتحدث عن آمالنا وأحلامنا وتطلعاتنا، أعجبنا ببعضنا البعض لكننا لم نظهر أياً من مشاعرنا، تعددت الخطابات وكذلك اللقاءات حتى جاء اليوم الذي صرحت لها بأن لدي الكثير من المشاعر تجاهها، أصرت على أن أقول ما أشعر به بالضبط، وأخذت تكرر طلبها بإلحاح، حتى قلت لها "أحبك" فصمتت لبرهة ثم أجابت "وأنا أيضاً أحبك". حينما سمعتها تهمس بتلك الكلمات شعرت أنني أسعد إنسان في الدنيا". صمت الأستاذ نادر وظهر على ملامحه حزن شديد، فسألته محاسن "وماذا حدث بعد ذلك؟"
أخذ أستاذ نادر نفساً عميقاً وقال "تبدلت طباعها، لم تعد رقيقة وحنونة كما كانت، صارت عنيفة وتعاملني بقسوة، واستمرت على هذا المنوال عام كامل، عدا بعض اللحظات النادرة التي تعود فيها إلى رقتها السابقة"
فسألت محاسن "ولماذا لم تتركها؟" أجاب "لأنني بتلك اللحظات النادرة كنت أشعر بسعادة بالغة معها، وبكل مرة احتملت قسوتها وعنفها وسوء طباعها كان بسبب طمعي في تكرار تلك اللحظات التي شعرت فيها بالسعادة معها."
- "ألم تعلم لماذا تغيرت بهذا الشكل؟"
- "أخبرتني ذات مرة بأحد تلك اللحظات النادرة، أنها مضطرة لتكون عنيفة معي هكذا، حتى تكبح نفسها عن قول كلمات الحب لي"
- "لا أفهم! لماذا تكبح نفسها؟"
- "حسبما فهمت منها، لأن علاقتنا لن تثمر عن زواج، ولم تخبرني عن السبب، ربما بسبب ظروف اجتماعية لأنني لم أكن قد انتقلت للقاهرة بعد، وربما لأسباب أخرى لم تصرح بها لي، كان هذا ببداية العلاقة، لكن بنهايتها صرحت لي بأنها لا تعلم إن كانت أحبتني منذ البداية أم لا!"
- "لا تعلم؟! كم أكره ما فعلته معك! وماذا حدث بعد ذلك؟"
- "صارت اللحظات النادرة أكثر ندرة، وعنفها أكثر عنفاً، لم تكن تسمح بكلمة أقولها أن تمر دون أن تتشاجر معي حتى لو كانت الكلمة "كيف حالك؟"، تحولت حياتنا إلى جحيم، والأسوأ أنني كنت أتعذب بسبب كل ما يحدث، وهي لا يشغل تفكيرها هذا الأمر أبداً كأنما أصبحت فجأة بلا قلب! ثم قررت أن تنهي كل شيء وأن نادر بالنسبة لها لا وجود له بالحياة أبداً! بعدها صارت حياتي خاوية وفارغة ومؤلمة، تركت عملي ولم أكن أبرح المنزل، وفكرت طويلاً بالانتحار". توقف أستاذ نادر عن الكلام، وسالت دمعة صامته من عينيه.
بدأ الأستاذ نادر بسرد قصته قائلاً "التقيتها منذ زمن طويل في بداية الثلاثينيات من عمري، كانت فتاة بسيطة ذكية جميلة وممتلئة حماساً ونشاطاً، لم أكن أقيم بالقاهرة حينئذ وهي قاهرية المنشأ وعرفنا بعضنا عن طريق المراسلة التي كانت منتشرة حينئذ قبل ظهور الانترنت. حيث كانت المجلات وقتها تنشر عناوين لمن يهوون المراسلة. خطاب بعد آخر ثم تبادلنا الصور، ثم بعد شهور قررنا اللقاء، والتقينا في مقهى شهير بوسط القاهرة وجلسنا نتحدث عن آمالنا وأحلامنا وتطلعاتنا، أعجبنا ببعضنا البعض لكننا لم نظهر أياً من مشاعرنا، تعددت الخطابات وكذلك اللقاءات حتى جاء اليوم الذي صرحت لها بأن لدي الكثير من المشاعر تجاهها، أصرت على أن أقول ما أشعر به بالضبط، وأخذت تكرر طلبها بإلحاح، حتى قلت لها "أحبك" فصمتت لبرهة ثم أجابت "وأنا أيضاً أحبك". حينما سمعتها تهمس بتلك الكلمات شعرت أنني أسعد إنسان في الدنيا". صمت الأستاذ نادر وظهر على ملامحه حزن شديد، فسألته محاسن "وماذا حدث بعد ذلك؟"
أخذ أستاذ نادر نفساً عميقاً وقال "تبدلت طباعها، لم تعد رقيقة وحنونة كما كانت، صارت عنيفة وتعاملني بقسوة، واستمرت على هذا المنوال عام كامل، عدا بعض اللحظات النادرة التي تعود فيها إلى رقتها السابقة"
فسألت محاسن "ولماذا لم تتركها؟" أجاب "لأنني بتلك اللحظات النادرة كنت أشعر بسعادة بالغة معها، وبكل مرة احتملت قسوتها وعنفها وسوء طباعها كان بسبب طمعي في تكرار تلك اللحظات التي شعرت فيها بالسعادة معها."
- "ألم تعلم لماذا تغيرت بهذا الشكل؟"
- "أخبرتني ذات مرة بأحد تلك اللحظات النادرة، أنها مضطرة لتكون عنيفة معي هكذا، حتى تكبح نفسها عن قول كلمات الحب لي"
- "لا أفهم! لماذا تكبح نفسها؟"
- "حسبما فهمت منها، لأن علاقتنا لن تثمر عن زواج، ولم تخبرني عن السبب، ربما بسبب ظروف اجتماعية لأنني لم أكن قد انتقلت للقاهرة بعد، وربما لأسباب أخرى لم تصرح بها لي، كان هذا ببداية العلاقة، لكن بنهايتها صرحت لي بأنها لا تعلم إن كانت أحبتني منذ البداية أم لا!"
- "لا تعلم؟! كم أكره ما فعلته معك! وماذا حدث بعد ذلك؟"
- "صارت اللحظات النادرة أكثر ندرة، وعنفها أكثر عنفاً، لم تكن تسمح بكلمة أقولها أن تمر دون أن تتشاجر معي حتى لو كانت الكلمة "كيف حالك؟"، تحولت حياتنا إلى جحيم، والأسوأ أنني كنت أتعذب بسبب كل ما يحدث، وهي لا يشغل تفكيرها هذا الأمر أبداً كأنما أصبحت فجأة بلا قلب! ثم قررت أن تنهي كل شيء وأن نادر بالنسبة لها لا وجود له بالحياة أبداً! بعدها صارت حياتي خاوية وفارغة ومؤلمة، تركت عملي ولم أكن أبرح المنزل، وفكرت طويلاً بالانتحار". توقف أستاذ نادر عن الكلام، وسالت دمعة صامته من عينيه.
كادت محاسن أن
تبكي لرؤيته بهذا الحزن، وقالت "أنا آسفة جداً لتذكيرك بكل هذا، إن كنت تريد
التوقف وعدم الاسترسال في قصتك..."
قاطعها أستاذ نادر قائلاً "لا، سوف أكمل القصة". ارتشف بعض القهوة بالحليب ثم أكمل قائلاً " حاولت نسيانها، فلم أستطع، كان كل شيء حدث محفوراً بذاكرتي، حتى نصحني بعض الأصدقاء بالذهاب لطبيب نفسي، والذي كتب لي بعض الأدوية والمهدئات، التي لم أتناولها لعدم اقتناعي بجدواها، ظللت هكذا لمدة أربعة أشهر، حتى كدت أفقد عقلي، حتى أتى لي خاطر، وهو أن من تركتني ليست هي من أحبتني، إنهما شخصان مختلفان، ارتحت تماماً لهذه الفكرة وقررت الاحتفاظ بمن أحبتني في ذاكرتي والاحتفاظ بصورها أمامي كما ترين، عدت لعملي مبتسماً هادئاً مرتاحاً، مع وجود روتين جديد في حياتي، كلما استيقظت صباحاً قلت لصورتها "صباح الخير يا حبيبتي" وقبل أن أغفو مساءً أقول لصورتها "تصبحين على خير يا حبيبتي" أقبل صورها كلما اشتقت إليها واحياناً في الليالي التي تتعبني فيها الوحدة آخذ صورتها بحضني وأبكي اشتياقاً لها حتى أنام."
قاطعها أستاذ نادر قائلاً "لا، سوف أكمل القصة". ارتشف بعض القهوة بالحليب ثم أكمل قائلاً " حاولت نسيانها، فلم أستطع، كان كل شيء حدث محفوراً بذاكرتي، حتى نصحني بعض الأصدقاء بالذهاب لطبيب نفسي، والذي كتب لي بعض الأدوية والمهدئات، التي لم أتناولها لعدم اقتناعي بجدواها، ظللت هكذا لمدة أربعة أشهر، حتى كدت أفقد عقلي، حتى أتى لي خاطر، وهو أن من تركتني ليست هي من أحبتني، إنهما شخصان مختلفان، ارتحت تماماً لهذه الفكرة وقررت الاحتفاظ بمن أحبتني في ذاكرتي والاحتفاظ بصورها أمامي كما ترين، عدت لعملي مبتسماً هادئاً مرتاحاً، مع وجود روتين جديد في حياتي، كلما استيقظت صباحاً قلت لصورتها "صباح الخير يا حبيبتي" وقبل أن أغفو مساءً أقول لصورتها "تصبحين على خير يا حبيبتي" أقبل صورها كلما اشتقت إليها واحياناً في الليالي التي تتعبني فيها الوحدة آخذ صورتها بحضني وأبكي اشتياقاً لها حتى أنام."
تسللت دمعة حزينة
فجأة من عين محاسن فأشاحت بوجهها بعيداً كي تمسحها بدون أن يلاحظها أستاذ نادر. ثم
تنحنحت لتعيد صوتها لطبيعته وأخذت نفساً عميقاً قبل أن تسأل "ولماذا لم تتزوج
بأخرى حتى تنساها؟"
ابتسم أستاذ نادر كأنما كان يتوقع السؤال وأجاب "لأنني اعتبرت الزواج من واحدة وأنا أحب أخرى هو الخيانة ذاتها، وضميري لا يسمح لي بأن أخون".
ابتسم أستاذ نادر كأنما كان يتوقع السؤال وأجاب "لأنني اعتبرت الزواج من واحدة وأنا أحب أخرى هو الخيانة ذاتها، وضميري لا يسمح لي بأن أخون".
فسألته "هل
تعلم ما حدث لها بعد ذلك؟ هل غلبك الفضول يوماً لمعرفة كيف أصبحت؟" فأجاب
"لا، لم أعلم، لم تسمح لي بالاتصال بها أو التواصل معها مطلقاً، لا أعلم عنها
شيئاً حتى اليوم."
ابتسمت محاسن في حزن، وشكرت أستاذ نادر على قصته، وعرضت عليه الاتصال بها في حالة احتاج لأي شيء فهي منذ هذه اللحظة تعتبر نفسها بمثابة ابنته، شكرها أستاذ نادر على عطفها وربت على كتفها برفق، مودعاً إياها حتى الباب.
ابتسمت محاسن في حزن، وشكرت أستاذ نادر على قصته، وعرضت عليه الاتصال بها في حالة احتاج لأي شيء فهي منذ هذه اللحظة تعتبر نفسها بمثابة ابنته، شكرها أستاذ نادر على عطفها وربت على كتفها برفق، مودعاً إياها حتى الباب.
أخذت محاسن في تلك
الليلة تفكر في تلك القصة التي سمعتها، وكيف عاش أستاذ نادر نصف عمره مخلصاً لهذا
الحب الضائع، لم يرد أن يتركه يذهب ولم يودعه.
انشغلت محاسن في حياتها ودراستها الجامعية ونسيت هذا الأمر تماماً، وبعد شهرين من هذا اليوم مع أستاذ نادر، عادت للمنزل من الجامعة، لتجد نظرة وجوم على وجه والديها، فسألت عن السبب، أخبراها بأن أستاذ نادر توفى منذ أسبوع، ولم يعلم أحد حتى اشتم الجيران رائحة تعفن الجثة، فنادوا على البواب الذي جاء مسرعاً وكسروا باب الشقة ليجدوه متوفياً ومحتضناً صورة فتاة في العشرينيات من عمرها لم يعرفها أحد. حينما سمعت محاسن تلك الكلمات انهارت باكية حزناً على أستاذ نادر الذي كان مخلصاً لحبه في حياته وموته. تمت.
انشغلت محاسن في حياتها ودراستها الجامعية ونسيت هذا الأمر تماماً، وبعد شهرين من هذا اليوم مع أستاذ نادر، عادت للمنزل من الجامعة، لتجد نظرة وجوم على وجه والديها، فسألت عن السبب، أخبراها بأن أستاذ نادر توفى منذ أسبوع، ولم يعلم أحد حتى اشتم الجيران رائحة تعفن الجثة، فنادوا على البواب الذي جاء مسرعاً وكسروا باب الشقة ليجدوه متوفياً ومحتضناً صورة فتاة في العشرينيات من عمرها لم يعرفها أحد. حينما سمعت محاسن تلك الكلمات انهارت باكية حزناً على أستاذ نادر الذي كان مخلصاً لحبه في حياته وموته. تمت.