Wednesday, February 19, 2014

حكاية مي - نهاية مختلفة

أخذ وكيل النيابة أشرف عبد العال يرتب أوراقه وهو يمعن النظر إلى الفتاة الهزيلة الماثلة أمامه وهي مطرقة برأسها إلى الأرض، تمتلك بعض ملامح الجمال، لكن الهالات السوداء تحت عينيها وانتفاخهما من البكاء غيرت الكثير من ملامحها. أشار إلى كاتبه ليبدأ بكتابة المحضر، رمق الفتاة بنظرة طويلة ثم أخذ شهيقاً عميقاً وسألها : س: اسمك؟
أجابت: مي محمد عبد الهادي
س: عمرك؟
ج: 25 عاماً
س: محل الميلاد؟
ج: قرية صغيرة بمحافظة القليوبية
س: ومحل إقامتك الحالي؟
ج: شبرا، محافظة القاهرة
س: المهنة؟
ج: معلمة بمدرسة ابتدائية
س: لماذا قتلت المجني عليه؟
أطرقت مي برأسها مرة أخرى ثم أجهشت بالبكاء، رمقها أشرف بشفقة وعطف، ثم نظر إلى كاتبه وأشار إليه أن يتركهما وحدهما. أغلق الكاتب باب الغرفة، فقدم لها كوب من الماء وطلب منها أن تشرب، أمسكت كوب الماء بيد ترتعش بشدة حتى كاد الماء أن يسقط من الكوب، لكنها عضدتها باليد الأخرى لتزدرد الماء بصعوبة بالغة وسط دموعها الغزيرة.
قال لها: "لا يوجد كاتب ولا محضر الآن، أريد أن أعرف قصتك، كيف حدث كل هذا؟ ولماذا؟ ما هي قصتك يا مي؟"
رمقته مي بنظرة يملئها الشك، لكن ما بين شعره الأبيض الكث ووجهه المكتنز ونظرته الحانية شيء ما أعطاها إحساساً بالراحة وأن أخيراً قد يكون لها صديق تحكي له حياتها ولو لآخر مرة.
أخذت نفساً عميقاً، ثم بدأت بسرد حكايتها:
كما أخبرتك أنا من قرية صغيرة بمحافظة القليوبية، كنت الوسطى بين أخواتي الخمسة وكلهن فتيات، الفارق بيني وبين الكبرى 4 سنوات، حينما كان عمري 10 سنوات أتى لنا من يبشرنا بأن أختي منال ذات الـ14 ربيعاً قد طلبها زوجاً، لم أكن أفهم معنى هذا الأمر، فرحنا جميعاً بهذا الخبر خاصة والدي ووالدتي، وأخذا بتجهيز أختي لإرسالها لزوجها الخليجي المقيم بالقاهرة، لكن بخلاف ما كنا نعرفه من مشاهدة التلفاز، لم يكن ثمة حفل زفاف، ولم تكن تعلم أختي ماذا يحدث بالضبط، كل ما علمناه أن هذا العريس قد دفع حفنة من الدولارات ليد من جاء ليبشرنا ووعده بالمزيد، وفي يوم لم نجد أختي بيننا، لكن أمنا أخبرتنا أنها تزوجت، وأننا سنتزوج مثلها لاحقاً. خفت وارتعبت، هل من تتزوج تختفي هكذا ولا يراها أهلها مرة أخرى؟ أحب أخواتي جداً، ولا أريد أن أفترق عنهن فجأة.
مرت الأيام وتحولت لأسابيع، وبعد شهرين عادت أختي إلينا بهالات سوداء تحت عينيها ولا تكف عن البكاء، وفي مشهد معاكس رأيت أبي وأمي مزهوان وفخوران بها. سألتها ونحن وحدنا عما حدث، فأجهشت بالبكاء، لكنها أخبرتني عن أن العريس مجرد زائر خليجي في رحلة عمل لمصر، يبحث عن عروس بكر صغيرة السن ليفترس طفولتها وينهش جسدها الصغير النحيل ليتباهى بفحولته الزائفة أمام أقرانه، مقابل عقد عرفي ومبلغاً من المال يدفعه لأبينا. وأخذت تحكي لي كيف كان يضربها ويتلذذ بضربها ويضحك لصراخها ويعاملها كأنما هي جارية اشتراها بأمواله يفعل بها ما يشاء. وحينما انتهت زيارته لمصر، طلقها ليعود إلى بلده ويرجع لمصر العام القادم باحثاً عن أخرى.
توقفت مي عن الاسترسال لتسيل دموعها في صمت، شعر أشرف بطعام إفطاره يكاد يعود أدراجه ليغادر فمه، لكنه تمالك نفسه، وعاد يسألها، وماذا فعلت بعد ذلك؟
صمتت مي لبرهة، ثم أجابت: "حينئذ تبلورت في ذهني خطة الهروب، وزاد إصراري عليها الكوابيس التي كنت أراها كل ليلة، وبكاء أختي المستمر، وعودة نفس الشخص الذي بشرنا أولاً، ليخبرنا بأن ثمة عريس خليجي آخر لأختي، لكن لقاء مبلغ أقل، لأنها لم تعد بكراً! أصاب الهلع أختي، ورفضت بشدة وحاولت الهرب، لكن انهال عليها أبي ضرباً بكل قسوة أمامنا حتى..." هنا تهدج صوت مي وأخذت تلهث كأنما تلك الذكريات حية جاثمة أمامها "حتى انكسر ظهرها، وأصبحت قعيدة مشلولة ليومنا هذا".
اتسعت عينا أشرف في ذهول من قسوة هذا الأب، وأراد أن يمد يده ليربت على كتفها، لكنها أجفلت ناظرة إلى يده في رعب، فتراجع قائلاً: "لا تخافي، أردت فقط أن أربت على كتفك، لكن لا بأس، اكملي أرجوك"
أكملت مي قائلة: "أمر أبي أمي بأن تجهز سهى أختي ذات الـ12 عاماً لتذهب، ولم ترفض سهى، إذ كانت مرعوبة من أن تلاقي مصير منال. وأخبر أبي من جاءنا بالخبر، أن يزيد من الأموال إذ سيرسل له فتاة بكراً، وهذا ما حدث، وأرسل أختي لتعود بعد شهر لكن في حالة مختلفة، إذ كانت مسرورة، هذا الخليجي العجوز كان يغدق عليها بالهدايا والأموال ويحسن معاملتها، ولكن لم يفت هذا في عزيمتي، فقد زاد تصميمي على الهروب".
فسألها: "وكيف تمكنت من الهروب؟"

أخذت مي بالتقاط أنفاسها وارتشفت القليل من كوب الماء قبل أن تكمل: "أمي وأخواتي ينمن مبكراً، واعتاد أبي أن يسهر على المقهى كل يوم حتى منتصف الليل، في ليلة هروبي أخذت ما استطعت من مال كنت أدخره لهذا اليوم، ولفافة وضعت بها خبز جاف وجبن، وتسللت من المنزل وانطلقت أعدو حتى وصلت للطريق السريع خارج القرية، أشرت لسيارة أجرة في طريقها للقاهرة فتوقفت واستقللتها".
سألها أشرف: "ألم تشعري بالخوف وأنت بهذا السن الصغير من أن يعتدي عليك أحد؟"
أجابت بحزم: "وهذا ما كانوا يظنونه بالمنزل، لذلك لم يتوقعوا هروبي، بالإضافة إلى أنني لم أعد أشعر بالخوف بعد ما رأيته وسط أسرتي، أياً كانت الوحوش تسكن، فهي في ذلك المنزل، وفي تلك القرية!"
صمت أشرف لبرهة ليتأملها، بدا له أن ظروف الحياة القاسية تعطي البشر شجاعة لم يكونوا ليمتلكوها بالظروف العادية.
سألها: "إلى أين كنت تنوين الذهاب في القاهرة؟"
أجابت مي: "لدي خالة، أسمع عنها الكثير من القصص منذ مولدي، كيف ثارت على أحوال القرية وهربت مع حبيبها من القرية ليتزوجا ويعيشان سوياً بالقاهرة، وقد تمكنت من الأحاديث القليلة التي أثيرت أمامي عنها من معرفة أين تسكن بالتقريب، وصممت بالذهاب للبحث عنها، من القليل الذي جمعته أنها تسكن بحي شبرا بالقاهرة بجانب كنيسة..."
قاطعها أشرف: "لكن شبرا مليئة بالكنائس، كيف تمكنت من إيجادها؟"
صمتت مي لبرهة وبدا أنها تتذكر ثم أجابت: "بحثت عنها لمدة ثلاثة أيام متتالية، كنت أقضي كل يوم في البحث أسأل كل حارس عقار يجاور كنيسة عنها وأغفو ليلاً على كورنيش النيل، حتى تكلل بحثي بالنجاح في اليوم الثالث، أذكر أنني حينما طرقت باب الشقة، فتحت لي سيدة جميلة شعرها كستنائي منسدل على كتفيها، ابتسمت في وجهي وأخبرتني أن أنتظر لحظة".
سألها في تعجب: "لماذا؟"
أجابت: "لأنها ظنتني متسولة، كانت هيئتي مزرية بعد أن أمضيت أياماً أبحث عنها نهاراً وأنام بالشارع ليلاً".
- "وماذا فعلت؟"
- "
عادت لتعطني مالاً في يدي مع ابتسامة حانية، فسألتها "هل أنت خالتي منى؟" تسمرت مكانها للحظات ثم سألتني "من أنت؟" أجبتها "أنا مي ابنة أختك من القرية، هربت منهم وبحثت عنك حتى وجدتك" تجمدت خالتي مكانها للحظات حتى ظننت أنها ستطردني، لكن فجأة فتحت ذراعيها واحتضنتني وأخذت تذرف دموعها رغماً عنها وتقبلني، وأدخلتني لشقتها، نظفتني من أتربة الشارع وأعدت لي الطعام واهتمت بي أكثر مما رأيته من أمي، وعلمت السبب بعدها أنها وزوجها لم ينجبا أطفال وكانت تشتاق لطفل أو طفلة يملأ حياتها، وأخذت تحكي لي قصتها وكيف هربت مع حبيبها وتزوجا بالقاهرة، وكيف عمل مع تاجر كبير وتدرج في عمله لذكائه وكفاءته حتى صار هو نفسه تاجراً كبيراً، وحينما عاد زوجها عرفته علي وأخذته لغرفة جانبية ليتحدثا معاً ثم عادا ليخبراني بأنهما لن يعيداني إلى أهلي وأنني مرحب بي بالإقامة معهما كما أشاء كأنني ابنتهما."
ابتسم أشرف ابتسامة حانية حينما لاحظ الابتسامة الواسعة المرتسمة على وجه مي وهي تستعيد هذه الذكريات. ثم سألها: "وهل بحث أهلك عنك؟ وهل وجدوك؟"
ماتت الابتسامة على شفتي مي، وقالت: "أجل، بحثوا عني، ووجدني أبي عند خالتي بعد شهور، لكن خالتي تصدت له وهددت بأنها ستبلغ الشرطة عن كل حكيته لها عن ما فعله بأختي المسكينة، رحل وهو يسب ويلعن ويهدد بأنه سيطلق أمي انتقاماً من خالتي."
- "وماذا حدث بعد ذلك؟"
- "
عشت مع خالتي وزوجها كأبنة لهما، وقد عاملاني أفضل معاملة ويحنوان علي طيلة الوقت، أكملت تعليمي بالقاهرة، حتى التحقت بكلية تربية جامعة القاهرة وتخرجت لأعمل معلمة بمدرسة ابتدائية قريبة من المنزل."
- "
أشعر أننا نقترب من الأحداث التي تسببت فيما نحن هنا لصدده. ماذا حدث يا مي؟ لماذا تقدم شابة طيبة مكافحة متعلمة مثلك على القتل؟"
أطلقت مي زفرة حارة من أعماق صدرها وبدا على ملامحها الألم وهي تتذكر الأحداث التي حولتها من معلمة لقاتلة.
وبدأت مي بسرد الأحداث قائلة: "أمام المدرسة ثمة محل كبير لإصلاح السيارات يمتلكه رجل عجوز طيب لكن بحكم سنه لم يعد يستطيع متابعة المحل بنفسه، وترك هذه المهمة لابنه، وهو شاب مدلل يجلس ليدخن أمام المدرسة ويراقب الفتيات أثناء خروجهن من المدرسة."
- "
الفتيات الصغيرات بالمدرسة الابتدائية؟"
- "
أجل! لاحظته أكثر من مرة يحاول التقرب لأي فتاة يعجبه ملامحها أثناء خروجنا من المدرسة، أحياناً يتحرش بواحدة لفظياً، وأحياناً يحاول أن يعطي حلوى لأخرى لاستدراجها، تلقيت شكاوي كثيرة من الفتيات، وبحكم نشأتي أعلم أنهن لن تستطعن إبلاغ آبائهن. ذهبت في يوم لأتحدث معه على أمل أن يرتدع عن أفعاله، لكن رغم أنني تحدثت معه بكل لين وأدب، غضب وثار بل وتمادى بصفعي على وجهي بالشارع أمام المارة."
سألها أشرف: "وهل تدخل المارة لمنعه؟"
 
ابتسمت مي بمرارة، وقالت "بهذه الأيام، لا يتدخل المارة إلا ما يرونه حفظاً للآداب العامة، كمثل أن فتاة وحبيبها يمسكان أيدي بعضهما، أو فتاة تسير بدون غطاء للشعر، لكن أن يصفع ذكر أنثى في الشارع لا يعتبر - في رأيهم - مخالفاً للآداب العامة."
انتقلت الابتسامة المريرة لشفتي أشرف، وقال: "للأسف هذا ما صرنا عليه اليوم، أرجوك استمري."
أمسكت مي بكوب الماء وارتشفت آخر ما فيه، ثم قالت بحزن: "ذهبت لأبيه واشتكيت له، أخبرني أنه سيتصرف، لكن بعدما علم هذا الشاب بما فعلت، زادت الأمور تعقيداً. أصبح يزيد من تحرشاته بالفتيات أثناء الخروج من المدرسة خاصة حينما أخرج أنا، كأنما يعلن لي في تحد أنني لا أستطيع إيقافه، وفي أكثر من مرة حرض أصدقائه الذين يمتلكون درجات بخارية لسرقتي أو التحرش بي."
سألها أشرف: "ولماذا لم تبلغي الشرطة عن هذه الأفعال؟"
أجابت مي: "ذهبت للشرطة وحاولت الإبلاغ، لكن الضابط أخبرني أن ليس لديه وقت لهذه الأمور التافهة، وأنه لن يفتح محضر لهذا الأمر. واكتشفت بعدها أن هذا الضابط عميل مستمر عنده وهذا الشاب يصلح له سيارته ويبدل قطع غيارها مجاناً كرشوة له. حينئذ قررت أن أبتعد عن طريقه تماماً وأخرج من المدرسة متأخرة لعله ينتظرني ليضايق الفتيات، وقد كان. حتى أتى اليوم الذي خرجت فيه متأخرة بعض الشيء لأجده يأخذ فتاة من فتيات فصلي داخل المحل، بحجة أنه يريد أن يريها ماكينة صنع حلوى اشتراها حديثاً، لم يكن أحد غيره بالمحل، فتتبعتهما متوارية عن الأنظار إلى داخله، حتى بدأت الفتاة بالصراخ بحجرة داخل المحل فاندفعت للزود عنها، لأجده نائماً بجسده فوقها على الأرض يحاول الاعتداء عليها، صرخت وركلته بعيداً عنها، فهرولت الفتاة جارية إلى خارج المحل. قام غاضباً ليصفعني على وجهي بقوة فارتميت أرضاً، وأخذ يسبني ويقول أنه سيعتدي علي أنا بدلاً منها وأنني من أتيت إليه بقدمي. ارتمي فوقي محاولاً تمزيق ثيابي، وأنا أحاول أن أدفعه عني بكل قوتي، لكنه كان قوياً وثقيلاً، وصفعني مجدداً حتى سالت الدماء من وجهي، ركلته وحاولت النهوض لأهرب لكنه أمسك بي وجذبني أرضاً بعنف، فسقطت على وجهي، لتجد يدي مصادفة مقص أسلاك ملقى على الأرض بإهمال، فأمسكت به بقوة بينما كان يحاول أن يديرني ليكمل فعلته الدنيئة فدفعت المقص بكل قوتي في عنقه فصرخ وجحظت عينيه وسقط فوقي جثة هامدة، أزحته من فوقي بصعوبة، وخرجت من المحل للشارع مترنحة ليجدني المارة غارقة في دماءه واستطلعوا الأمر داخل المحل وسلموني لقسم الشرطة، وأنت تعرف الباقي."


صمتت مي لبرهة ثم أجهشت بالبكاء بحرارة لتسقط دموعها الغزيرة على أرض مكتب أشرف، حاول أشرف أن يواسيها قائلاً: "لا تقلقي، سيكون الحكم مخففاً، أنت كنت في حالة دفاع عن النفس." لكن يبدو أن كلماته تبددت في أنحاء الغرفة دون الوصول إلى مي. نظر إليها أشرف بشفقة، وقام من مقعده ليخرج من الغرفة تاركاً مي وحدها حتى تهدأ ليستطيع مواصلة التحقيق.  
 
استمرت مي بالبكاء وهي تفكر بنشأتها وأسرتها وكل أحداث حياتها، شعرت كأنما الكون نفسه يلعنها لمولدها بمثل هذه القرية التي تتاجر بالفتيات الصغيرات، ولمولدها بمثل هذه الدولة التي لا تكتفي بسحق الأنثى وحسب بل وتحاسبها إن قامت بالدفاع عن نفسها كأنما هذا ليس من حقها!
كيف تخرج من هذه الهوة؟ كيف تجد الخلاص لنفسها من هذه الحياة الكريهة؟ تمنت أن تمحى ذاكرتها، أو الأفضل من هذا أن تُمحى هي من بين الأحياء، لكن كيف وهي الآن...؟
فجأة انقطعت عن الاسترسال في أفكارها حينما حانت منها التفاتة تجاه مكتب أشرف وكيل النيابة، وشاهدت فتاحة الخطابات الحادة الملقاة على المكتب.
فكرت بقطع شريانها، لكن لا، سيتطلب هذا وقتاً طويلاً حتى تموت وربما يلحقونها ويسعفونها وتستمر في مواجهة هذا المصير السيء بالحياة في دولة العبث! ولم تجد لخلاصها سوى سبيلاً واحداً، وقفت بعزم وأمسكت أداة فتح الخطابات ووضعت طرفها الحاد فوق موضع قلبها بين ضلوعها وثبتتها بإحكام وأخذت نفساً عميقاً وأغمضت عينيها، ثم سقطت أرضاً عليها بكل ثقلها لتدخل الأداة بين ضلوعها وتستقر في قلب مي.
عاد أشرف إلى مكتبه ليجد مي جثة هامدة ودمائها تغرق المكان، فشعر بالذعر، وخرج سريعاً لينادي الحارس بالخارج ليدخل بسرعة ويأمر آخر بأن يتصل بالإسعاف سريعاً، ويعود للغرفة ومعه كل عين فضولية بالرواق خارج الغرفة،  ليشاهدوا جثة مي التي لفظت أنفاسها الأخيرة كضحية ومجني عليها من أهلها والمجتمع!  تمت.

Tuesday, February 18, 2014

حكاية مي

أخذ وكيل النيابة أشرف عبد العال يرتب أوراقه وهو يمعن النظر إلى الفتاة الهزيلة الماثلة أمامه وهي مطرقة برأسها إلى الأرض، تمتلك بعض ملامح الجمال، لكن الهالات السوداء تحت عينيها وانتفاخهما من البكاء غيرت الكثير من ملامحها. أشار إلى كاتبه ليبدأ بكتابة المحضر، رمق الفتاة بنظرة طويلة ثم أخذ شهيقاً عميقاً وسألها : س: اسمك؟
أجابت: مي محمد عبد الهادي
س: عمرك؟
ج: 25 عاماً
س: محل الميلاد؟
ج: قرية صغيرة بمحافظة القليوبية
س: ومحل إقامتك الحالي؟
ج: شبرا، محافظة القاهرة
س: المهنة؟
ج: معلمة بمدرسة ابتدائية
س: لماذا قتلت المجني عليه؟
أطرقت مي برأسها مرة أخرى ثم أجهشت بالبكاء، رمقها أشرف بشفقة وعطف، ثم نظر إلى كاتبه وأشار إليه أن يتركهما وحدهما. أغلق الكاتب باب الغرفة، فقدم لها كوب من الماء وطلب منها أن تشرب، أمسكت كوب الماء بيد ترتعش بشدة حتى كاد الماء أن يسقط من الكوب، لكنها عضدتها باليد الأخرى لتزدرد الماء بصعوبة بالغة وسط دموعها الغزيرة.
قال لها: "لا يوجد كاتب ولا محضر الآن، أريد أن أعرف قصتك، كيف حدث كل هذا؟ ولماذا؟ ما هي قصتك يا مي؟"
رمقته مي بنظرة يملئها الشك، لكن ما بين شعره الأبيض الكث ووجهه المكتنز ونظرته الحانية شيء ما أعطاها إحساساً بالراحة وأن أخيراً قد يكون لها صديق تحكي له حياتها ولو لآخر مرة.
أخذت نفساً عميقاً، ثم بدأت بسرد حكايتها:
كما أخبرتك أنا من قرية صغيرة بمحافظة القليوبية، كنت الوسطى بين أخواتي الخمسة وكلهن فتيات، الفارق بيني وبين الكبرى 4 سنوات، حينما كان عمري 10 سنوات أتى لنا من يبشرنا بأن أختي منال ذات الـ14 ربيعاً قد طلبها زوجاً، لم أكن أفهم معنى هذا الأمر، فرحنا جميعاً بهذا الخبر خاصة والدي ووالدتي، وأخذا بتجهيز أختي لإرسالها لزوجها الخليجي المقيم بالقاهرة، لكن بخلاف ما كنا نعرفه من مشاهدة التلفاز، لم يكن ثمة حفل زفاف، ولم تكن تعلم أختي ماذا يحدث بالضبط، كل ما علمناه أن هذا العريس قد دفع حفنة من الدولارات ليد من جاء ليبشرنا ووعده بالمزيد، وفي يوم لم نجد أختي بيننا، لكن أمنا أخبرتنا أنها تزوجت، وأننا سنتزوج مثلها لاحقاً. خفت وارتعبت، هل من تتزوج تختفي هكذا ولا يراها أهلها مرة أخرى؟ أحب أخواتي جداً، ولا أريد أن أفترق عنهن فجأة.
مرت الأيام وتحولت لأسابيع، وبعد شهرين عادت أختي إلينا بهالات سوداء تحت عينيها ولا تكف عن البكاء، وفي مشهد معاكس رأيت أبي وأمي مزهوان وفخوران بها. سألتها ونحن وحدنا عما حدث، فأجهشت بالبكاء، لكنها أخبرتني عن أن العريس مجرد زائر خليجي في رحلة عمل لمصر، يبحث عن عروس بكر صغيرة السن ليفترس طفولتها وينهش جسدها الصغير النحيل ليتباهى بفحولته الزائفة أمام أقرانه، مقابل عقد عرفي ومبلغاً من المال يدفعه لأبينا. وأخذت تحكي لي كيف كان يضربها ويتلذذ بضربها ويضحك لصراخها ويعاملها كأنما هي جارية اشتراها بأمواله يفعل بها ما يشاء. وحينما انتهت زيارته لمصر، طلقها ليعود إلى بلده ويرجع لمصر العام القادم باحثاً عن أخرى.
توقفت مي عن الاسترسال لتسيل دموعها في صمت، شعر أشرف بطعام إفطاره يكاد يعود أدراجه ليغادر فمه، لكنه تمالك نفسه، وعاد يسألها، وماذا فعلت بعد ذلك؟
صمتت مي لبرهة، ثم أجابت: "حينئذ تبلورت في ذهني خطة الهروب، وزاد إصراري عليها الكوابيس التي كنت أراها كل ليلة، وبكاء أختي المستمر، وعودة نفس الشخص الذي بشرنا أولاً، ليخبرنا بأن ثمة عريس خليجي آخر لأختي، لكن لقاء مبلغ أقل، لأنها لم تعد بكراً! أصاب الهلع أختي، ورفضت بشدة وحاولت الهرب، لكن انهال عليها أبي ضرباً بكل قسوة أمامنا حتى..." هنا تهدج صوت مي وأخذت تلهث كأنما تلك الذكريات حية جاثمة أمامها "حتى انكسر ظهرها، وأصبحت قعيدة مشلولة ليومنا هذا".
اتسعت عينا أشرف في ذهول من قسوة هذا الأب، وأراد أن يمد يده ليربت على كتفها، لكنها أجفلت ناظرة إلى يده في رعب، فتراجع قائلاً: "لا تخافي، أردت فقط أن أربت على كتفك، لكن لا بأس، اكملي أرجوك"
أكملت مي قائلة: "أمر أبي أمي بأن تجهز سهى أختي ذات الـ12 عاماً لتذهب، ولم ترفض سهى، إذ كانت مرعوبة من أن تلاقي مصير منال. وأخبر أبي من جاءنا بالخبر، أن يزيد من الأموال إذ سيرسل له فتاة بكراً، وهذا ما حدث، وأرسل أختي لتعود بعد شهر لكن في حالة مختلفة، إذ كانت مسرورة، هذا الخليجي العجوز كان يغدق عليها بالهدايا والأموال ويحسن معاملتها، ولكن لم يفت هذا في عزيمتي، فقد زاد تصميمي على الهروب".
فسألها: "وكيف تمكنت من الهروب؟"

أخذت مي بالتقاط أنفاسها وارتشفت القليل من كوب الماء قبل أن تكمل: "أمي وأخواتي ينمن مبكراً، واعتاد أبي أن يسهر على المقهى كل يوم حتى منتصف الليل، في ليلة هروبي أخذت ما استطعت من مال كنت أدخره لهذا اليوم، ولفافة وضعت بها خبز جاف وجبن، وتسللت من المنزل وانطلقت أعدو حتى وصلت للطريق السريع خارج القرية، أشرت لسيارة أجرة في طريقها للقاهرة فتوقفت واستقللتها".
سألها أشرف: "ألم تشعري بالخوف وأنت بهذا السن الصغير من أن يعتدي عليك أحد؟"
أجابت بحزم: "وهذا ما كانوا يظنونه بالمنزل، لذلك لم يتوقعوا هروبي، بالإضافة إلى أنني لم أعد أشعر بالخوف بعد ما رأيته وسط أسرتي، أياً كانت الوحوش تسكن، فهي في ذلك المنزل، وفي تلك القرية!"
صمت أشرف لبرهة ليتأملها، بدا له أن ظروف الحياة القاسية تعطي البشر شجاعة لم يكونوا ليمتلكوها بالظروف العادية.
سألها: "إلى أين كنت تنوين الذهاب في القاهرة؟"
أجابت مي: "لدي خالة، أسمع عنها الكثير من القصص منذ مولدي، كيف ثارت على أحوال القرية وهربت مع حبيبها من القرية ليتزوجا ويعيشان سوياً بالقاهرة، وقد تمكنت من الأحاديث القليلة التي أثيرت أمامي عنها من معرفة أين تسكن بالتقريب، وصممت بالذهاب للبحث عنها، من القليل الذي جمعته أنها تسكن بحي شبرا بالقاهرة بجانب كنيسة..."
قاطعها أشرف: "لكن شبرا مليئة بالكنائس، كيف تمكنت من إيجادها؟"
صمتت مي لبرهة وبدا أنها تتذكر ثم أجابت: "بحثت عنها لمدة ثلاثة أيام متتالية، كنت أقضي كل يوم في البحث أسأل كل حارس عقار يجاور كنيسة عنها وأغفو ليلاً على كورنيش النيل، حتى تكلل بحثي بالنجاح في اليوم الثالث، أذكر أنني حينما طرقت باب الشقة، فتحت لي سيدة جميلة شعرها كستنائي منسدل على كتفيها، ابتسمت في وجهي وأخبرتني أن أنتظر لحظة".
سألها في تعجب: "لماذا؟"
أجابت: "لأنها ظنتني متسولة، كانت هيئتي مزرية بعد أن أمضيت أياماً أبحث عنها نهاراً وأنام بالشارع ليلاً".
- "وماذا فعلت؟"
- "عادت لتعطني مالاً في يدي مع ابتسامة حانية، فسألتها "هل أنت خالتي منى؟" تسمرت مكانها للحظات ثم سألتني "من أنت؟" أجبتها "أنا مي ابنة أختك من القرية، هربت منهم وبحثت عنك حتى وجدتك" تجمدت خالتي مكانها للحظات حتى ظننت أنها ستطردني، لكن فجأة فتحت ذراعيها واحتضنتني وأخذت تذرف دموعها رغماً عنها وتقبلني، وأدخلتني لشقتها، نظفتني من أتربة الشارع وأعدت لي الطعام واهتمت بي أكثر مما رأيته من أمي، وعلمت السبب بعدها أنها وزوجها لم ينجبا أطفال وكانت تشتاق لطفل أو طفلة يملأ حياتها، وأخذت تحكي لي قصتها وكيف هربت مع حبيبها وتزوجا بالقاهرة، وكيف عمل مع تاجر كبير وتدرج في عمله لذكائه وكفاءته حتى صار هو نفسه تاجراً كبيراً، وحينما عاد زوجها عرفته علي وأخذته لغرفة جانبية ليتحدثا معاً ثم عادا ليخبراني بأنهما لن يعيداني إلى أهلي وأنني مرحب بي بالإقامة معهما كما أشاء كأنني ابنتهما."
ابتسم أشرف ابتسامة حانية حينما لاحظ الابتسامة الواسعة المرتسمة على وجه مي وهي تستعيد هذه الذكريات. ثم سألها: "وهل بحث أهلك عنك؟ وهل وجدوك؟"
ماتت الابتسامة على شفتي مي، وقالت: "أجل، بحثوا عني، ووجدني أبي عند خالتي بعد شهور، لكن خالتي تصدت له وهددت بأنها ستبلغ الشرطة عن كل حكيته لها عن ما فعله بأختي المسكينة، رحل وهو يسب ويلعن ويهدد بأنه سيطلق أمي انتقاماً من خالتي."
- "وماذا حدث بعد ذلك؟"
- "عشت مع خالتي وزوجها كأبنة لهما، وقد عاملاني أفضل معاملة ويحنوان علي طيلة الوقت، أكملت تعليمي بالقاهرة، حتى التحقت بكلية تربية جامعة القاهرة وتخرجت لأعمل معلمة بمدرسة ابتدائية قريبة من المنزل."
- "أشعر أننا نقترب من الأحداث التي تسببت فيما نحن هنا لصدده. ماذا حدث يا مي؟ لماذا تقدم شابة طيبة مكافحة متعلمة مثلك على القتل؟"
أطلقت مي زفرة حارة من أعماق صدرها وبدا على ملامحها الألم وهي تتذكر الأحداث التي حولتها من معلمة لقاتلة.
وبدأت مي بسرد الأحداث قائلة: "أمام المدرسة ثمة محل كبير لإصلاح السيارات يمتلكه رجل عجوز طيب لكن بحكم سنه لم يعد يستطيع متابعة المحل بنفسه، وترك هذه المهمة لابنه، وهو شاب مدلل يجلس ليدخن أمام المدرسة ويراقب الفتيات أثناء خروجهن من المدرسة."
- "الفتيات الصغيرات بالمدرسة الابتدائية؟"
- "أجل! لاحظته أكثر من مرة يحاول التقرب لأي فتاة يعجبه ملامحها أثناء خروجنا من المدرسة، أحياناً يتحرش بواحدة لفظياً، وأحياناً يحاول أن يعطي حلوى لأخرى لاستدراجها، تلقيت شكاوي كثيرة من الفتيات، وبحكم نشأتي أعلم أنهن لن تستطعن إبلاغ آبائهن. ذهبت في يوم لأتحدث معه على أمل أن يرتدع عن أفعاله، لكن رغم أنني تحدثت معه بكل لين وأدب، غضب وثار بل وتمادى بصفعي على وجهي بالشارع أمام المارة."
سألها أشرف: "وهل تدخل المارة لمنعه؟"
 ابتسمت مي بمرارة، وقالت "بهذه الأيام، لا يتدخل المارة إلا ما يرونه حفظاً للآداب العامة، كمثل أن فتاة وحبيبها يمسكان أيدي بعضهما، أو فتاة تسير بدون غطاء للشعر، لكن أن يصفع ذكر أنثى في الشارع لا يعتبر - في رأيهم - مخالفاً للآداب العامة."
انتقلت الابتسامة المريرة لشفتي أشرف، وقال: "للأسف هذا ما صرنا عليه اليوم، أرجوك استمري."
أمسكت مي بكوب الماء وارتشفت آخر ما فيه، ثم قالت بحزن: "ذهبت لأبيه واشتكيت له، أخبرني أنه سيتصرف، لكن بعدما علم هذا الشاب بما فعلت، زادت الأمور تعقيداً. أصبح يزيد من تحرشاته بالفتيات أثناء الخروج من المدرسة خاصة حينما أخرج أنا، كأنما يعلن لي في تحد أنني لا أستطيع إيقافه، وفي أكثر من مرة حرض أصدقائه الذين يمتلكون درجات بخارية لسرقتي أو التحرش بي."
سألها أشرف: "ولماذا لم تبلغي الشرطة عن هذه الأفعال؟"
أجابت مي: "ذهبت للشرطة وحاولت الإبلاغ، لكن الضابط أخبرني أن ليس لديه وقت لهذه الأمور التافهة، وأنه لن يفتح محضر لهذا الأمر. واكتشفت بعدها أن هذا الضابط عميل مستمر عنده وهذا الشاب يصلح له سيارته ويبدل قطع غيارها مجاناً كرشوة له. حينئذ قررت أن أبتعد عن طريقه تماماً وأخرج من المدرسة متأخرة لعله ينتظرني ليضايق الفتيات، وقد كان. حتى أتى اليوم الذي خرجت فيه متأخرة بعض الشيء لأجده يأخذ فتاة من فتيات فصلي داخل المحل، بحجة أنه يريد أن يريها ماكينة صنع حلوى اشتراها حديثاً، لم يكن أحد غيره بالمحل، فتتبعتهما متوارية عن الأنظار إلى داخله، حتى بدأت الفتاة بالصراخ بحجرة داخل المحل فاندفعت للزود عنها، لأجده نائماً بجسده فوقها على الأرض يحاول الاعتداء عليها، صرخت وركلته بعيداً عنها، فهرولت الفتاة جارية إلى خارج المحل. قام غاضباً ليصفعني على وجهي بقوة فارتميت أرضاً، وأخذ يسبني ويقول أنه سيعتدي علي أنا بدلاً منها وأنني من أتيت إليه بقدمي. ارتمي فوقي محاولاً تمزيق ثيابي، وأنا أحاول أن أدفعه عني بكل قوتي، لكنه كان قوياً وثقيلاً، وصفعني مجدداً حتى سالت الدماء من وجهي، ركلته وحاولت النهوض لأهرب لكنه أمسك بي وجذبني أرضاً بعنف، فسقطت على وجهي، لتجد يدي مصادفة مقص أسلاك ملقى على الأرض بإهمال، فأمسكت به بقوة بينما كان يحاول أن يديرني ليكمل فعلته الدنيئة فدفعت المقص بكل قوتي في عنقه فصرخ وجحظت عينيه وسقط فوقي جثة هامدة، أزحته من فوقي بصعوبة، وخرجت من المحل للشارع مترنحة ليجدني المارة غارقة في دماءه واستطلعوا الأمر داخل المحل وسلموني لقسم الشرطة، وأنت تعرف الباقي."
أخذ أشرف بمراقبة مي في صمت وهي تلهث في توتر واضح بعدما انتهت من سرد قصتها. ثم ابتسم لمي ابتسامة حانية وأخبرها بأن ما فعلته يعد دفاعاً عن النفس، وأن المحكمة ستبرأها بشهادة الفتاة من فصلها بما حدث. وأنه سيبذل قصارى جهده بمساعدتها. ويبدو أن كلماته طمأنت مي فهدأت قليلاً وقابلت ابتسامته بابتسامة منها.
نادى أشرف على كاتبه ليعود، عاد كاتبه وجلس بمكانه المخصص، وأخذ أشرف يمليه ما سردته عليه مي للتو من أحداث وكيف دافعت عن فتاة صغيرة وعن نفسها.
مرت الأشهر، وبالفعل برأت المحكمة مي، بعد أن شهدت الفتاة لصالحها، وكانت شهادة أبيه حاسمة أيضاً في القضية إذ أقر بأفعال ابنه وأن الكثيرين اشتكوا إليه منه، وكيف حاول إصلاحه وتقويمه لكنه لم يفلح، ويأمل أن القصاص الذي حدث لابنه سبيلاً لغفران ذنوبه في الآخرة.
خرجت مي لتعود لخالتها وزوج خالتها واستعادت عملها بالمدرسة ومرت الأسابيع، وفي يوم جمعة أثناء جلوسها بالمنزل مع خالتها وزوج خالتها سمعوا من يطرق على الباب، قامت مي لتفتح الباب لتجد أمامها أشرف عبد العال وكيل النيابة وبصحبته شاب وسيم ممشوق القوام، اندهشت من هذه الزيارة غير المتوقعة لكنها رحبت بهما، ونادت على زوج خالتها ليرحب بهما وأخبرته أن هذا وكيل النيابة الذي حقق معها وعاملها بكل ود وطمأنها. فرحب بهما زوج خالتها بحرارة وأدخلهما إلى الصالون ليجلسوا معاً، وبدأ أشرف بقوله: "في حياتي كوكيل نيابة، لم أجد فتاة مثل مي، مكافحة وصلبة وقوية، ولديها إصرار وعزيمة للحياة لم أجد مثلهما، لذلك أتيت اليوم لأطلب يدها لابني المهندس مدحت."
أجاب زوج خالتها: "هذا أمر يشرفنا، لكن القرار الأخير في يد مي وحدها."
ابتسم أشرف وقال: "بالطبع، ويمكنها أخذ كل الوقت الذي تريده للتعرف عليه وقبوله أو رفضه."
بعد ستة أشهر من ذلك اليوم حسمت مي أمرها، فقد وجدت أن مدحت شاب حنون وطيب كوالده، وقد أعجب بها منذ حكى أبوه له عنها، وأغرم بها منذ أن رآها أمام باب شقة خالتها.
وانطلقت الزغاريد لتعلن زفاف مي محمد عبد الهادي على مدحت أشرف عبد العال في أحد فنادق القاهرة... وسط سعادة الحضور. تمت.