جلس حسين على
مكتبه الصغير في معمله بالمنزل، أحنى رأسه على مكتبه في إحباط، فبعد خمس سنوات
كاملة من الأبحاث لم يصل بعد لنتيجة مرضية. أخذ يتذكر رغماً عنه كيف بدأت الأحداث
التي دفعته للانعزال والاستغراق في هذا البحث المضني للتوصل إلى اكتشاف لم يصل له
العلم المعاصر بعد.
تبدأ الأحداث منذ
5 سنوات حينما تخرج حسين من كلية العلوم جامعة القاهرة، الأول على دفعته، ممتلئاً
بروح الشباب والتفاؤل ليتلقى صدمته الأولى من حبيبته وزميلته سمر، بأنها ستتركه
لتتزوج بآخر. كادت الصدمة أن تفقده النطق، ترك كل شيء واعتزل الحياة تقريباً، حتى
لاحت له فكرة تشبث بها بشدة فهي أمله الوحيد أن يستمر مع محبوبته التي أعطاها كل
قلبه. طلب لقائها لأمر ضروري، فوافقت على مضض بعد إلحاح منه، وكانت حجته أن ينفصلا
بشكل هادئ ودي. تلاقيا في مكانهما المعتاد، وكانت كلماتها موجعة جداً بالنسبة له،
لكنه كان يضع الخطة التي تبلورت في عقله أمامه طيلة الوقت، لذلك كان مبتسماً في
هدوء لا مبالي. وبعدما انتهت سمر من مشروبها، واستأذنت لتمضي، تركها تمضي مودعاً
إياها متمنياً لها حياة سعيدة. واتفق مع صاحب المقهى أنه سيحصل على هذا الكوب لأمر
هام، ودفع أضعاف ثمنه ليحصل عليه، وضعه في حقيبة خاصة، وانطلق لمعمله المنزلي.
أجل، كان كل ما يهمه بتلك اللحظة أنه يحمل الحمض النووي الخاص بسمر. فالخطة في بساطتها هي شديدة التعقيد، إن كانت
سمر الأولى قد تركته، فلما لا يسخّر العلم ليحصل على سمر أخرى.
لذلك ظل يجتهد
بالخمس أعوام التالية كي يجد طريقة ليستنسخ سمر ويتخطى كل العقبات العلمية
المعروفة بهذا الأمر. بل ليضيف لهذا جهاز لتجميد وظائفه الحيوية لمدة 20 عاماً حتى
تكبر سمر الجديدة ليحبها وتحبه. سد أذنيه عن نصيحة صديقيه أحمد الطبيب النفسي وزوجته
منى اللذان ترجياه كثيراً بالاستسلام والبحث عن أخرى، فقبلا ما يفعله بصمت.
حتى أتت اللحظة
التي تواجه كل عالم مثابر، ربما هي إلهام، أو قوة عليا توجهه، أياً كانت، فقد بدأ
يجني ثمارها. وظهر النجاح في التجربة تلو الأخرى. حضّر رحماً صناعياً بالمعمل
مجهزاً لنمو النسخة الجديدة به. استمر في مراقبة التجربة تسعة أشهر كاملة. حتى
ولدت الطفلة الجديدة. سمر!
عرض الأمر على
صديقيه، أحمد ومنى، وطلب أن يتبنيا سمر على أنها ابنتهما، في البداية رفضا بشدة،
لكنهما رضخا للأمر بعدما شرح لهما حسين الخطة بكاملها، وبعدما رأيا الطفلة الجميلة
سمر.
تم الأمر رسمياً، وكان
حسين قد استعد، وهب لصديقيه كل ما يملك حتى المعمل، لينفقا على سمر ويعلماها بشكل
مشابه لسمر الأصلية، لتسير حياتها بنفس النمط الذي يعرفه عن سمر الأصلية. واستعد
هو ليدخل جهاز التجميد، لمدة عشرين عاماً، آملاً أن ينجح الأمر ويخرج منه ليلتقي
بسمر مجدداً.
بعد أن أصبح كل
شيء جاهزاً، حانت اللحظة المنشودة، ودخل الجهاز، وأغمض عينيه موصياً صديقيه أن
يتركا المعمل كما هو ويحافظا على المعمل كما هو للعشرين عاماً القادمة.
أغمض عينيه وبدأ
الجهاز عمله، ثم فتح عينيه مرة أخرى، كأنما مرت لحظة واحدة. لكن كان كل شيء
مختلفاً. وجد أمامه صديقه أحمد، وقد انحسر شعر رأسه وامتلأ ما تبقى منه بالشيب. كان
استيعابه للأمور بطيئاً بالبداية، مما جعل صديقه أحمد - الذي صار طبيباً نفسياً
شهيراً - أن يذكره بكل شيء ويطمئنه على أن
الخطة تسير بحذافيرها.
سر حسين كثيراً
حينما شاهد وجهه بالمرآة، فما زال يحتفظ وجهه بنضارته كأنما لم يدخل للثلاثينيات
من عمره بعد. سأل صديقه أحمد عن سمر، وهل هي بخير؟ أجابه بأنها بخير وأنهما
سيقدمانه لها في أقرب وقت ممكن حينما يستعد.
تطلب الأمر
أسبوعاً من حسين ليكون مستعداً وتنحسر أثار جهاز التجميد، ذهب لدعوة عشاء بمنزل
صديقه أحمد، سلم على صديقته منى زوجة أحمد بحرارة. وقد أخبرا سمر بأنه صديق
العائلة.
حينما تقابل مع
سمر، كأنما توقف قلبه، لقد كانت كما كان يتخيلها تماماً، نفس الفتاة التي أحبها
حينما كان بالكلية. وزادت سعادته جداً حينما بدا انجذاب سمر إليه واضحاً.
مرت الأيام وزادت
المقابلات، خرجا سوياً تحدثا كثيراً، أخبرها بحبه لها، وانتظر رد فعلها، فأخبرته
أنها أيضاً تحبه. شعر حسين أخيراً بأنه لم يهدر حياته عبثاً، تحقق حلمه وستدوم
سعادته هذه المرة.
بعد مضي أشهر على
هذه العلاقة السعيدة، بدأت سمر تتغير تجاهه، لا تتحدث كثيراً، لا ترد على اتصالاته
إلا نادراً. حاول أن يتقرب منها أكثر لكنها بدأت بصده. سأل صديقيه عن سر هذا
التغير، أجاباه بأنهما لا يعرفان.
حاول سؤالها مباشرة، فأجابته بكل صراحة تصل إلى
حد الوقاحة، أنها لم تعد تحبه، وأنها تنوي الزواج من آخر.
كانت الصدمة قاسية
على حسين، لثاني مرة في حياته بعد مرور كل هذه السنوات، ترفضه سمر.
انعزل في معمله
مرة أخرى، ولثاني مرة حاول صديقيه ثنيه عن هذا، لكنه لم يعد يريد مغادرة معمله أو
مواجهة العالم مجدداً، فقد أثبت لنفسه أنه أضاع حياته هدراً!
وقرر كحل أخير
للتخلص من كل يأسه وإحباطه وكآبته أن يدخل جهاز التجميد، موصيا صديقيه ألا يحاولا
إخراجه منه مهما حدث.
وحتى لحظة كتابة
هذه السطور، ما زال حسين في جهاز التجميد، يحلم بسمر حبيبته التي هواها قلبه
ومنحها كل حياته.
No comments:
Post a Comment