Sunday, August 18, 2013

المرآة - قصة قصيرة

استيقظ سعيد من نومه فجأة مضطرباً، تطلب عقله بضع ثوان ليعي ما يدور حوله في الظلام الدامس، فهو يسكن وحده بعد وفاة والديه منذ سنوات مضت، لكنه متأكد أنه سمع أحدهم يهمس باسمه. نهض من فراشه ليضيء أنوار الغرفة، بحث تحت فراشه، في بقية أركان الشقة وغرفها، لم يجد أحداً، هل كان يحلم؟ هل كان يتخيل أشياء أثناء نومه؟ قرر أن يلقي الأمر برمته خلف ظهره ويعود للنوم. لكنه توقف عند المرآة في غرفته المضاءة، هذا الانعكاس يشبهه، يرتدي نفس منامته، لكن هذه النظرة الواثقة ليست نظرته، وهذه الابتسامة الساخرة التي تعلو هذا الانعكاس ليست ابتسامته. فرك عينيه بقوة، ظناً منه أنه ربما يكون نائماً ويحلم، لكنه تأكد أنه ليس كذلك. اعتراه الخوف وتراجع مبتعداً، لكن انعكاسه الذي ظل واقفاً مكانه، قال له "هل صحوت أخيراً؟ كدت أفقد الأمل." كان سعيد يرتجف كورقة في مهب الريح، وازدرد لعابه في صعوبة واضحة بمحاولة منه للسيطرة على أعصابه، وامتلكته فكرة واحدة "هل أصابه الجنون؟" وأجاب الانعكاس كأنه يقرأ أفكاره "لا، لم تجن، ليس بعد على أية حال" ثم أطلق ضحكة ساخرة. سأل سعيد وهو على وشك الانهيار "من أنت؟ وماذا تريد مني؟" أجابه الانعكاس "لا عليك بمن أنا، فليس لي وجود حقيقي بعالمك، وكل ما أريده لك هو الخير". صرخ سعيد "أنت لا وجود لك إلا برأسي، لابد أنني جننت!" انقلبت سحنة الانعكاس إلى غضب عارم وأشاره بيده إلى سعيد قائلاً "اصمت"، فتجمد سعيد بمكانه كأنما أصابه الشلل ولم يستطع حتى أن يفتح فمه ليصرخ، أكمل الانعكاس قائلاً "أنت من ناديتني إلى حياتك، بكآبتك المستمرة وطلبك الدائم للموت، تظن أنك خسرت كل شيء بوفاة والديك وترك محبوبتك لك، لكن هذا غير حقيقي، أنا هنا لأغير حياتك كلها للأفضل" وأشار بيده، فشعر سعيد أنه يستطيع الحركة الآن، وقال بصوت خافت مبحوح "كيف؟" ابتسم الانعكاس بهدوء وقال "اسألني مجدداً وسأجيبك بالصباح، اذهب للنوم الآن يا سعيد." واختفى الانعكاس، ليحل محله صورة سعيد بالمرآة تعلو وجهه ملامح الخوف والرعب. لكنه أطاع باستسلام وذهب لفراشه بدون أن يجرؤ على إغلاق أضواء الغرفة. ظل مستيقظاً بفراشه محدقاً بالسقف حتى غلبه النوم قرب الصباح، استيقظ من نومه على صوت المنبه معلناً الساعة السابعة صباحاً كعادته كل يوم عمل، جلس على فراشه بصعوبة، متذكراً بعضاً مما رأى أثناء الليل. نهض من فراشه متجهاً للخروج من الغرفة لكن استوقفته المرآة، تلك المرآة الغريبة التي أوصى بها عمه إليه قبل وفاته، إنها مرآة عادية جداً، لا يميزها شيئاً إلا ضخامتها وإطارها الذهبي اللامع وتعلوها حروف لاتينية لا يفقه معناها، لطالما سمع قصص عن عمه الذي كان يهوى جمع الكتب القديمة وقيل أنه يمارس السحر سراً، لكن تبخرت تلك القصص بعد وفاته إذ لم يجد أحد شيئاً بمنزله تشير إلى ممارسته السحر. رغم محاولته البائسة لإقناع نفسه أن ما رآه مجرد كابوس، غلبه فضوله ليسأل بصوت صدر خافتاً ومهتزاً "كيف؟"، وأمام عينيه رأى انعكاسه يبتسم ويجيب سؤاله "هل تريد عودة محبوبتك إليك؟" لمعت عين سعيد وقال في لهفة "أجل!". قال الانعكاس بصوت واثق "اذهب الآن إلى المقهى الذي اعتدتما الجلوس فيه معاً، وستجدها هناك بانتظارك" خفق قلب سعيد، وارتدى ملابسه على عجل وانطلق إلى المقهى ليجد محبوبته هناك، وقفت لتسلم عليه بلهفة واشتياق بالغ بشكل أدهشه وقالت "رأيتك في حلم أمس، واستيقظت اليوم أشعر باشتياق إليك وجئت إلى المقهى لعلي أراك بها". شعر سعيد كأنما أصابه بعض الحظ من اسمه، لقد صار سعيداً حقاً، انتهى لقاءهما وودعها ليعود إلى منزله ويقف أمام المرآة ليظهر الانعكاس المبتسم ويسأله بهدوء "كيف كان يومك يا سعيد؟" أجاب سعيد "كان رائعاً، شكراً لك!" تغيرت ملامح الانعكاس وتحدث بصوت عميق آمر "أريدك أن تترك هذه الفتاة." ذهل سعيد وصرخ "لكني أحبها!" أجاب الانعكاس "لكنها لا تحبك، تذكر هذا جيداً، تركتك مرة وستتركك مجدداً، فهي لا تريد سوى أن تجد من يحبها ويلهث وراءها، هذا ما تريده وتسعى إليه لتشعر بقيمتها أمام نفسها، لكن الحقيقة أنها لن ترتبط بك أبداً". نكس سعيد رأسه، عالماً في قرارة نفسه أن ما يسمعه هو الحقيقة المجردة التي كان يرفض سماعها طيلة الفترة الماضية. وسأل "وما العمل الآن؟" أجاب الانعكاس واثقاً من انتصاره "سأعطيك كل ما تريد وأكثر، لكن بشرط أن تطيعني في كل شيء" أجاب سعيد مستسلماً "موافق".
مضت 10 سنوات، أطاع فيها سعيد انعكاسه بالمرآة فازداد فيها ثراءه وأصبح يمتلك عدة شركات وعقارات بدول كثيرة. وأصبح يسكن بفيللا فاخرة وفسيحة جداً بحي من أرقى أحياء القاهرة، تحتوي بين جدرانها مجموعة كبيرة من العاملين ليعتنوا بها، ويتهامسون عن ذلك الشاب ذو الأربعين عاماً فاحش الثراء الذي لم يتزوج بعد ولم يروا معه امرأة قط، وعن سماعهم أصوات تصدر من غرفته وحيداً أثناء الليل كأنما يتحدث لنفسه. يعلم سعيد هذه الهمسات جيداً، لكنه لم يلق لها بالاً، فهناك أمراً أهم كان يشغله، وفي تلك الليلة وقف أمام المرآة طالباً التحدث مع انعكاسه، الذي لم يتغير كل تلك السنوات، بنفس هذه المنامة التي رآها لأول مرة بغرفته بشقة والديه المتواضعة ونفس ابتسامته الهادئة الواثقة. تردد سعيد لوقت قصير قبل أن يسأل الانعكاس "ألم يحن الوقت كي أتزوج؟ إنني أشعر بوحدة شديدة، وأشعر أن كل ما امتلكته حتى الآن لا قيمة له بدون من أحبها وتحبني." أجاب الانعكاس "لم يعد هذا يصلح الآن يا سعيد، أية امرأة ستعجب بك لن تكون معجبة بشخصك، بل ستكون ساعية خلف أموالك، وربما ستخونك حينها ستعود وحيداً مجدداً، لكن بقلب محطم كئيب." صمت سعيد لبرهة ثم قال "لابد من وجود من لا تهتم بأموالي!" أجاب الانعكاس "كلهن واحد يا سعيد". ترك سعيد المرآة وأخذ يفكر بهذا الموضوع، لماذا لا يريده الانعكاس أن يرتبط؟ لماذا مات عمه وحيداً؟ هل للانعكاس دخلاً بهذا الأمر؟ قرر أن يترك الأمر برمته ويسافر لمدينة ساحلية للاستجمام، لعله يهرب من تلك الأسئلة.
في الأسبوع التالي كان يسير على شاطئ البحر حينما رأى فتاة جميلة تتجاهله وتسير تجاه المياه بكامل ملابسها، نظر إليها مندهشاً وقرر أن يراقبها ليعلم ما الذي تنويه، رآها تذهب إلى الناحية العميقة من الماء... وهنا اختفت لتغوص بالمياه، هرع سعيد وراءها سابحاً بكل قوته لعله ينقذها، جاهد مصارعاً الأمواج حتى وصل إليها وأمسك بيدها ليطفو بها سطح الماء ويسبح بها عائداً للشاطئ وهي تصرخ قائلة "اتركني، أريد أن أموت!" لكن كلماتها جعلته يتشبث بها أكثر وأكثر، حتى وصل إلى الشاطئ وحملها كطفلة صغيرة وأجلسها على الرمال، فأخذت تبكي بحرارة وتهذى بكلمات غير مترابطة فهم منها سعيد أن من تحبه تركها وتزوج بأخرى، فعادت إليه المرارة القديمة بترك محبوبته له، شعر بالشفقة والعطف تجاهها، وأخذ يربت على كتفها بحنو بالغ. نظرت إليه بعنين دامعتين يشبه لونهما لون سماء صافية وقالت "شكراً أنك أنقذت حياتي، إنه لا يستحق أن أموت لأجله" قال لها سعيد "لا عليك، أنا مسرور أنك بخير". عرض أن يوصلها للمنزل فوافقت لأنها كانت لا تقوى نفسياً وجسدياً على العودة وحدها، وسار معها حتى أوصلها، طلب رقم هاتفها ليطمئن عليها، فأملته عليه، وحفظه سعيد على الفور. عاد لغرفته بالفندق وقلبه يخفق بنغمة جديدة، هل هذا هو الحب؟
في اليوم التالي اتصل بها على الهاتف، سألت من المتصل؟ فذكرها بنفسه، وأخبرها باسمه، وطلب لقياها فوافقت على الفور، التقاها وتحدثا كثيراً، وتعددت لقاءاتهما وعلم الكثير عنها، علم أنها الابنة الوحيدة لأب من أغنى العاملين بقطاع البترول بالشرق الأوسط، وأن والدتها الروسية سيدة المجتمع هي من تقيم معها بتلك المدينة الساحلية، لكنها لا تهتم بها على الإطلاق، علم أنها وحيدة مثله تماماً. ومع كل لقاء، تزداد قوة خفقات قلبه، لتعلن عن تعلقه الشديد بها. أخبرها في يوم أنه يحبها ويريد الارتباط بها، ابتسمت في رقة وخجل وأجابت بالموافقة، واعتبر سعيد هذا اليوم من أسعد أيام حياته حقاً. أخبرها أن لديه ارتباطات بالقاهرة ينبغي أن ينهيها قبل أن يعود إليها ليحددا موعد الزفاف لم ترد أن تتركه، لكنه أصر على أن يعود وحده ووعد بأن يتصل بها كثيراً. وافقت مرغمة تحت تأثير اصراره. عاد إلى القاهرة ولا يعلم ماذا سيكون رد فعل الانعكاس، فهو قد وجد أخيراً من تريد الارتباط به لشخصه، وتحبه هو لا ماله، فلديها ما يقترب من ثروته وربما يزيد عنها. عاد لفيلته ودخل غرفته وأغلق الباب، ظهر الانعكاس بسرعة لكن بملامح غاضبة وعينين محمرتين وصاح بغضب عارم "لماذا خالفت أوامري؟ اترك هذه الفتاة حالاً." أجاب سعيد بهدوء يحمل إصراراً لم يعتده حين مواجهة الانعكاس "لا، لن أتركها!" تأمله الانعكاس لبرهة ثم عاد لابتسامته وقال "يا سعيد، ألم أخبرك أن كلهن خائنات؟ ستخونك وتتركك كما تركتك محبوبتك القديمة" أجاب سعيد "لا، ليس كلهن، إنها مختلفة! أنا واثق من هذا، وسأسعى للزواج بها سواء بموافقتك أو بغيرها، أنت تريد أن تمتلكني، كما امتلكت عمي من قبلي، تريدني أن أعيش وحدي لك فقط لتتحكم بي كما تشاء!" استعاد الانعكاس ملامحه الغاضبة وقال "إذن، فهي ستموت اليوم في حادث أليم وبطريقة بشعة!" ارتجف سعيد للفكرة فهو يعلم بخبرته مع الانعكاس أنه يستطيع هذا حقاً، لكن لا، لن يسمح له أن يؤذي من وجدها أخيراً لتملأ عقله وقلبه وكل كيانه، وصرخ بكل قوته "بل أنت من سيموت الآن!" وانطلق حتى الحائط ليحمل مقعداً ثقيلاً، علم الانعكاس ما سيفعله سعيد وظهر الرعب على ملامحه وقال مترجياً "تعقل يا سعيد، إن فعلت هذا فستعود كما كنت، ستعود..." لكن سعيد لم يمهله ليكمل كلماته وهوي بالمقعد الثقيل على المرآة محطماً إياها في عنف إلى قطع صغيرة تناثرت أشلاءها في أنحاء الغرفة. وفجأة وجد سعيد نفسه بغرفة نومه بشقة والديه القديمة، يرتدي منامته والأنوار مضاءة وكل قطع الأثاث بمكانها حتى المرآة سليمة تماماً، كل شيء كان على طبيعته بلا أدنى تغيير كما بتلك الليلة التي استيقظ فيها عقب سماع من يهمس باسمه، باستثناء شيئاً واحداً، أن انعكاسه بالمرآة أكبر بعشر سنوات مما كان عليه في تلك الليلة. تمت.

8 comments:

  1. ممتعة جدا..

    ReplyDelete
    Replies
    1. أشكرك... يمكنك قراءة بقية القصص بالمدونة :)

      Delete
  2. الله يسامحك يا بعيد ‫، كأبتني!‏!‏
    كنت فاكرها قصة ذات نهاية سعيدة بس كان لازم أعرف إن ده مستحيل معاك‫.‫
    بس من الناحية الأدبية ممتازة جداً جداً‫‫.‫

    ReplyDelete
    Replies
    1. شكراً يا دكتور... خش على اللي بعدها :)

      Delete
  3. السعادة في الحب ام السعادة في الثراء....الوحدة ام التجربة

    ReplyDelete
    Replies
    1. السعادة لا وجود لها، دوماً سيظل شيئاً ما ناقصاً، سنتوق له بشدة، مما ينغص علينا حياتنا

      Delete